آفات الزمن تحاصر المخطوطات الجزائرية النادرة

منذ 1 سنة 126

لا يزال التراث الجزائري المخطوط يواجه مخاطر الضياع والتلف، بعد أن تأخرت عمليات تحقيق ورقمنة المخطوطات التاريخية، التي تحمل في طياتها وثائق مهمة ونادرة تروي فصولاً من التاريخ تمتد إلى مئات السنين.

وعلى رغم الدعوات للإسراع في جمع المخطوطات الجزائرية وتوثيقها وتصنيفها رقمياً ليسهل استغلالها من طرف الباحثين، إلا أن كثيراً منها بقي مجهولاً في خزائن الزوايا الصوفية أو لدى العائلات في مختلف أنحاء البلاد، ما يجعل مهمة تحقيق هذه المخطوطات أكثر صعوبة.

ولعل أكثر ما أثار استنفار الجهات الرسمية القائمة على قطاع الثقافة في الجزائر لحماية المخطوطات النادرة من الضياع، هو حادثة نشوب حريق عام 2021 أتلف محتويات قرابة 2000 مخطوط كان داخل خزانة عائلية في مدينة أدرار جنوب البلاد، تبعه حريق آخر مطلع 2023، نشب في خزانة عائلة بمدينة صالح جنوب البلاد، تسبب في إتلاف قرابة 1800 مخطوط وكتاب ووثيقة تاريخية لم تتم رقمنة إلا جزء صغير منها.

حرائق

وأثار الحريق الأخير استياء الباحثين والمهتمين بالتاريخ، لأنه أتى على كتب الخزانة بكاملها، مع الوثائق التاريخية المهمة لأكثر من 400 سنة، التي تؤرخ لحقبة زمنية من تاريخ منطقة "تديكلت" العريقة بداية من القرن السابع عشر، وصولاً إلى المقاومة الشعبية والثورة التحريرية.

و"كان مصاب المهتمين بالتاريخ جللاً"، بحسب معنيين، حين فقدت خزانة التراث المخطوط الجزائرية، في أقل من سنتين في الحادثتين 3795 مخطوطاً تحمل كنوزاً ثمينة، تركها الأوائل من الجيل السابق من العلماء والباحثين والدارسين، تمثل إرثاً حضارياً وثقافياً واجتماعياً ينم عن وعي الشعوب السابقة.

وفتحت حادثة عرض مخطوط جزائري يعود إلى القرن السابع عشر، للبيع في مزاد علني بمدينة فان غرب فرنسا في 11 مارس (آذار) الماضي، الأعين عن التراث الجزائري الذي استولى عليه الاستعمار الفرنسي خلال فترة احتلاله للجزائر (1830-1962) ومدى الجهود التي تبذلها الحكومة الجزائرية لاسترجاعه.

هذا ما أعلنت عنه السلطات الجزائرية في الخامس من أبريل (نيسان) الماضي، بعد استرجاع المخطوط النادر الذي يرجع تاريخه إلى عام 1659 واستولت عليه السلطات الفرنسية سنة 1842 بعد غارة للجيش الفرنسي ضد الأمير عبد القادر الجزائري، بجهود أفراد الجالية الجزائرية في فرنسا "الذين تجندوا بحس وطني عال وحالوا دون بيع مخطوطة إسلامية نادرة في المزاد العلني"، وفق ما أعلنته وزارة الشؤون الخارجية والجالية الوطنية الجزائرية في الخارج.

وسارعت وزارة الثقافة الجزائرية بعد الحادثتين إلى تنظيم ندوة علمية وورشة تدريبية، مطلع فبراير (شباط) الماضي، في مدينة عين صالح حول تقنيات حماية وحفظ المخطوطات من الكوارث، وتنشيط خبراء في هذا المجال من المكتبة الوطنية الجزائرية، ضمن استراتيجية شاملة إزاء الحفاظ وصون الممتلكات الثقافية، ومن أجل تفعيل هذه الجهود ميدانياً وبحث مختلف سبل الحفاظ على المخطوط الجزائري.

مجموعة عمل

كما أسدت وزيرة الثقافة صورية مولوجي، توجيهات تقضي بالعمل الدؤوب في هذا المنحى للحفاظ على المخطوطات القيمة معرفياً وتاريخياً، برفع حالة الوعي بأهمية المخطوطات وصونها وعدم تعريضها للتلف أو الكوارث إلى المستوى المأمول بخاصة عند المواطنين الذين يمتلكون هذه المخطوطات.

وأنشأت الجزائر في يوليو (تموز) 2018، مجموعة عمل لرقمنة المخطوطات أشرف عليها "المجلس الإسلامي الأعلى" بالتنسيق مع "المجلس الأعلى للغة العربية"، مهمته جرد وإحصاء وفهرسة المخطوطات من أجل "وضع منصة إلكترونية تفاعلية لفهرستها تكون في متناول الباحثين بغية تسهيل البحوث والدراسات العلمية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأوضح بيان للمجلس الإسلامي الأعلى الجزائري، وقتها، أنه "بموجب هذا الاتفاق، ستقوم هذه المجموعة بإحصاء وجرد وفهرسة هذه المخطوطات عبر القيام بمسح علمي شامل ودقيق لها في مختلف مواقع وجودها".

وشمل نشاط المجموعة أيضاً "رصداً عاماً لتراث المخطوط الجزائري، انطلاقاً من الخريطة الوطنية لخزائن المخطوطات وذلك بالاستفادة من التقنيات التكنولوجية الحديثة، إلى جانب تنظيم ندوات متخصصة عبر مختلف مناطق الوطن تتضمن عرض أعمالها وتكريم العائلات والأسر العلمية التي تمتلك المخطوطات نظير مجهوداتها في الحفاظ عليها، والسعي إلى تشجيعها على وضع كنوز المخطوطات في متناول الباحثين والأكاديميين".

وانخرطت جامعة تلمسان، غرب الجزائر، في هذا المسعى ونظمت ملتقى وطنياً حول "التراث الجزائري المخطوط واقعه وسبل الحفاظ عليه"، ضمن فعاليات "شهر التراث" (18 أبريل - 18 مايو/أيار) الذي يقام هذا العام تحت شعار "التراث الثقافي الجزائري وامتداداته الأفريقية".

وبحسب ورقته التقديمية، يهدف الملتقى إلى "التعرف على أنواع المخطوطات ومضامينها الفكرية، وعلوم المخطوطات والعلوم المكملة لها، وأهم المجالات العلمية التي تضمنتها المصنفات في المخطوطات، وواقع المخطوطات وضروريات العناية بها"، إلى جانب "دفع البحث العلمي نحو مزيد من العناية بها".

وتناول المحاضرون عديداً من المحاور منها مناهج تحقيق المخطوط، وخزائن المخطوطات رصداً وتوصيفاً، والجهود البحثية في الدراسة والتحقيق، وفهرسة المخطوطات ومناهجها، وتقنيات ووسائل الحفاظ المادي على المخطوطات معالجةً وترميماً.

كتابة التاريخ

ويرى عبد الرحمن بلفرح أستاذ الحضارة الإسلامية في إحدى الجامعات الجزائرية، أن المخطوطات القديمة تشغل مكانة مميزة لكونها جزءاً من الذاكرة الجماعية ومنتوجاً حضارياً للأمة، لذا فإن حمايتها ودراستها ونقلها إلى الأجيال المقبلة تمثل استراتيجية في مجال كتابة التاريخ العلمي والثقافي.

وفي ورقة بحث بعنوان "حفظ وصيانة وترميم المخطوطات في الجزائر" قدمه إلى الجامعة، قال بلفرح إن الجزائر تعد من بين الدول التي لها رصيد تراثي ومخطوط ويعود إلى العدد الكبير من الزوايا الدينية، إذ تتوزع على مختلف المناطق والنواحي، مما يؤكد أن للجزائر إسهامات واضحة في ازدهار الحضارة الإسلامية من خلال انتشار مراكزها الإشعاعية.

ويوضح أن طبيعة المادة التي تتكون منها المخطوطات تتميز بهشاشتها وحساسيتها لمختلف عوامل التلف التي تؤدي إلى تدهور حالتها وإتلافها، ما يستدعي التدخل السريع والفعال لوقف هذا التلف الذي يصيبها.

ويضيف أن التقنيات الحديثة المستخدمة في المكتبات ومراكز التوثيق والمعلومات في مختلف دول العالم، بخاصة في الدول المتقدمة، كان لها تأثيرها الفاعل في أساليب نظم الحفظ والاسترجاع والتزويد والفهرسة والمراجع وسائر الخدمات الأخرى، والمحافظة على المعلومات من التلف والتمزق والسرقة.

وذكر أنه انطلاقاً من هذه الأهمية لحصر التراث المخطوط والمحافظة عليه، يكون من الضروري وجود جهة مركزية تعنى بتجميع وفهرسة وتصنيف المخطوطات بالتعاون والتنسيق مع المؤسسات الثقافية والعلمية الأخرى في كل قطر من الأقطار العربية، لغرض بناء قاعدة معلومات شاملة لتراثنا العربي المخطوط، بموجب استمارة خاصة معدة لهذا الغرض يتم إدخالها في الحاسوب، مع الإفادة من التقنيات الأخرى الحديثة ذات القدرات الهائلة في الاختزان كالأقراص الليزرية المتراصة. وبذلك يكون تحقيق الضبط الببليوغرافي الشامل لهذه الكنوز الخطية في غاية الأهمية، وسيكون بناء هذه القاعدة جزءاً من النظام الوطني للمعلومات في كل قطر عربي ضمن إطار التعاون والتنسيق مع المؤسسات المهتمة بالتراث العربي الإسلامي.