عقب ماراثون طويل من الجهد والمطالبات، ها هو اليمن يواصل جمع شتات تاريخه في بلد سادت حضارته الإنسانية المتفردة، ثم بددتها في عواصف الدهر الذي طار بما تبقى من آثارها في أصقاع المعمورة كنتيجة طبيعية لصراعاته التي لا تنتهي.
وبعد استعادة 77 قطعة أثرية متوسطة وصغيرة الحجم في فبراير (شباط) الماضي، ها هي أرض سبأ وحمير وقتبان وحضرموت تستعيد ثلاثاً من أهم وأبرز القطع الأثرية كبيرة الحجم التي تمثل جزءاً من إرثها الإنساني الذي تنقل في مدن الشتات بعدما عانى ويلات التجريف والمتاجرة على غفلة من "هدهد سبأ".
آمال في استعادة النفائس
وسلمت السلطات الأميركية أمس الجمعة، اليمن ثلاث قطع أثرية تبلغ قيمتها 725 ألف دولار من بينها تمثال لوعل يمني يعود للقرن الخامس قبل الميلاد.
وقال المدعي العام لولاية نيويورك ألفين براغ (Alvin Bragg) إنه "تم استرداد هذه القطع الأثرية وفقاً للتحقيق الجنائي الذي أنجز أخيراً في شأن الآثار التي اشتراها شيلبي وايت (مستثمر أميركي، جامع أعمال فنية، عضو مجلس إدارة متحف المتروبوليتان للفنون وأحد مؤسسي مؤسسة ليون ليفي)"، وأضاف براغ أن "وحدة مكافحة الاتجار بالآثار (ATU) استعادت 89 قطعة أثرية تقدر قيمتها الإجمالية بحوالى 69 مليون دولار، مصدرها 10 دول مختلفة"، مشيراً إلى أن "هذا هو أول احتفال بإعادة الآثار الذي تعقده وحدة الاتجار بالآثار مع الحكومة اليمنية".
ويمثل الخبر بشرى أمل لليمنيين في استعادة مزيد من نفائسهم التاريخية على رغم انشغالهم بنيران الحرب ومآلاتها المريعة، إذ إنه أمر نادر الحدوث في البلد الذي شهد قيام واحدة من أقدم الحضارات الإنسانية في العالم.
حتى انتهاء الحرب
وعن كيفية إعادة هذه الآثار إلى اليمن وضمان حفظها في ظل الصراع الدامي والانفلات الأمني هناك، أوضح المسؤول الأميركي أنه "نظراً إلى استمرار الحرب الأهلية، ستعرض هذه القطع الثلاث موقتاً في مؤسسة سميثونيان في واشنطن حتى تتمكن السلطات اليمنية من إعادتها بأمان إلى البلاد (عند انتهاء الحرب)".
لا تقدر بثمن
وفي احتفالية أقيمت بعودة القطع الثلاث الأثرية قال سفير اليمن لدى الولايات المتحدة محمد الحضرمي، "بالنيابة عن الحكومة اليمنية، أعرب عن امتناني العميق لمكتب المدعي العام لمقاطعة نيويورك، لا سيما لوحدة مكافحة الاتجار بالآثار إضافة إلى تحقيقات الأمن الداخلي التابعة لوزارة الأمن الداخلي الأميركية، على الجهود الجماعية التي بذلتها في استعادة وإعادة هذه القطع الأثرية اليمنية التي لا تقدر بثمن". وتطرق الحضرمي إلى الدور المتوقع من السفارة اليمنية في واشنطن مستقبلاً لاسترداد بقية القطع وقال إنها "ستواصل تعاونها الوثيق مع السلطات الأميركية على مستوى الولايات والمستوى الاتحادي في سعيها إلى استعادة الممتلكات الثقافية اليمنية المسروقة".
في منزلها الصحيح
بدوره قال الوكيل الخاص، المسؤول بالمكتب الميداني في ولاية نيويورك إيفان جيه أرفيلو إنه "لشرف كبير إعادة هذه الأجزاء الثلاثة المسروقة من التاريخ التي يعود تاريخها لأكثر من 2000 عام، إلى منزلها الصحيح"، وتابع "أنا فخور بالجهود المستمرة التي تبذلها مجموعة التحقيقات الخاصة بالممتلكات الثقافية والفنون والآثار التابعة لنيويورك وجهودها الدؤوبة للحفاظ على التاريخ الثقافي من جميع أنحاء العالم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي إجراء مماثل كانت السفارة اليمنية في واشنطن أعلنت في فبراير (شباط) الماضي، استعادة 77 قطعة أثرية ومخطوطة قرآنية مهربة ضبطتها الولايات المتحدة خلال الأعوام الماضية، وقال السفير حينها إن "بلادنا ونظراً إلى الأوضاع الحالية بسبب الانقلاب الحوثي على الدولة ومن أجل رفع الوعي والترويج للتراث اليمني في الأوساط الأميركية، قررت إعارة هذه الآثار لمتحف السميثونيان الشهير في قلب العاصمة الأميركية واشنطن، ونص اتفاق الإعارة الموقع بين السفارة والمتحف على قيام المتحف بحماية هذه الآثار وحفظها ودراستها والترويج لها وإعادتها إلى الحكومة اليمنية متى ما قررت ذلك".
عن القطع المستعادة
وتحتوي القطع الثلاث التي تسلمتها السلطات اليمنية على كبش من المرمر على قاعدة منقوشة يعود تاريخها للقرن الخامس قبل الميلاد، وهي عبارة عن قطعة جنائزية نشأت في مقبرة حيد بن عقيل في منطقة هجر كحلان التابعة لمديرية عسيلان بمحافظة شبوة، (شرق اليمن) نهبت من المقبرة عام 1994 أثناء اندلاع الحرب الأهلية اليمنية، وظهرت للمرة الأولى في السوق في غاليري المنصور بلندن، حيث اشتراها شيلبي وايت. وتم الاستيلاء على كبش المرمر من شقة شيلبي وايت في مانهاتن من قبل "وحدة مكافحة الاتجار بالآثار" في يناير (كانون الثاني) الماضي.
شخصية المرمر الأنثى
والقطعة الثانية هي شكل أنثوي من المرمر يعود تاريخها للقرن الثاني قبل الميلاد وهي علامة جنائزية تصور إلهة أنثى. وفي أواخر يونيو (حزيران) 1993، اشترى شيلبي وايت الشكل الأنثوي مباشرة من روبن سيمز الذي دين بتهريب الآثار من قبل المحكمة العليا في لندن عام 2005، وتم الاستيلاء على شخصية المرمر الأنثوية من شقة شيلبي وايت في مانهاتن من قبل وحدة مكافحة الاتجار بالآثار في يناير 2023.
أما القطعة الثالثة، فهي إناء من الفضة مع نقش ويعود تاريخها لما بين عامي 200 و300 ميلادي وهي مغطاة بزخارف بارزة، ساعدت في تحديد أصل القطعة وهي من الموقع ذاته الذي نهب منه كبش المرمر، وظهر الإناء الفضي للمرة الأولى في السوق عام 2005، عندما بيع في مزاد "كريستيز" نيويورك إلى شيلبي وايت، وضبط الإناء في شقة الأخير في مانهاتن من قبل وحدة الاتجار بالآثار (ATU) في فبراير (شباط) الماضي.
ونفذت السلطات القضائية في ولاية نيويورك خلال الأعوام الماضية حملات واسعة مماثلة تمثلت في إعادة آثار نهبت من أنحاء العالم كانت حطت رحالها في متاحف المدينة ومعارضها.
وفي عامي 2020 و2021 أعادت الولايات المتحدة 700 قطعة أثرية إلى 14 دولة بينها مصر والعراق واليونان وإيطاليا وكمبوديا والهند وباكستان.
لا إحصاءات
وبالإشارة إلى عدد القطع اليمنية المنهوبة، أكد السفير اليمني لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) محمد جميح خلال حديث سابق إلى "اندبندنت عربية" أنها "كثيرة جداً، لكن الإحصاءات الدقيقة تتطلب وجود قاعدة بيانات بذلك وهو ما لا يتوافر حتى الآن".
وحول توقعه إزاء رد الدول التي وجهت إليها مطالب باستعادة الآثار اليمنية، قال جميح "لا يمكن للدول التي وصلت إليها قطع التراث الثقافي اليمني إلا أن تتجاوب وفقاً لمقتضيات القوانين والمعاهدات الدولية ضمن منظمة يونيسكو".
يذكر أنه لا يوجد لدى الحكومة الشرعية اليمنية رقم محدد للآثار المنهوبة والمهربة ولكن بيانات غير رسمية ذكرت أنها تقدر بنحو مليون قطعة أثرية نهبت بطرق شتى من عشرات المواقع المنتشرة في البلاد.
الحرب تأتي على ما بقي
وعلاوة على حال الإهمال التي بلغت الآثار ومواقعها خلال العقود الماضية بين السرقة والنهب والتجريف، جاءت الحرب التي أشعلتها ميليشيات الحوثي لتشكل عامل هدم إضافي غير مسبوق تعدته إلى تهريب النفائس والقطع الأثرية والمتاجرة بها خارج البلاد المنشغلة بالحرب.
وفي محاولة لجمع ما تهرّب من التاريخ اليمني، سبق وقالت الحكومة الشرعية في يونيو (حزيران) 2022 إنها تدرس "كل الخيارات لاستعادة مئات القطع الأثرية المهربة من البلاد" بعد رصد بعضها معروضاً للبيع في مزادات تجارية في أوروبا".
وكشفت الخارجية اليمنية عن أن الحكومة "رصدت قيام جهات تجارية بعرض بعض القطع الأثرية اليمنية للبيع في عدد من المدن الأوروبية".
وإزاء ذلك، وجهت بعثاتها الدبلوماسية بالتواصل مع وزارات الخارجية في الدول المعنية لاتخاذ إجراءات بمنع بيع أي آثار يمنية في المزادات التجارية.
ودعت الدول الأوروبية إلى حظر بيع تلك القطع الأثرية وطالبت بتسليمها إلى سلطاتها المختصة لأنها "آثار يمنية لا يحق لأحد التصرف فيها بأي شكل من الأشكال وحق من حقوق الشعب اليمني لا يمكن التفريط فيه أو التنازل عنه".
نهب وتهريب ومتاجرة
وعقب الانقلاب الحوثي عام 2014 تعرضت المواقع الأثرية لعمليات نهب وتهريب ممنهجة وأضحت تجارتها رائجة وتتم علناً في أسواق عدد من المحافظات اليمنية كما هي الحال في محافظات مأرب وشبوة والجوف وإب لأنها مناطق غنية بالمواقع الأثرية التي طمرت أتربتها حضارات عريقة لعدد من الدول اليمنية القديمة الكبرى مثل سبأ وحمير وأوسان وقتبان وحضرموت ومعين وغيرها، وتهريبها للخارج مقابل مبالغ ضخمة.
ولطالما وجهت الحكومة اليمنية الاتهام إلى ميليشيات الحوثي بنهب عدد كبير من المواقع الأثرية والتاريخية التي تقع تحت سيطرتها وتهريب مئات القطع.
وفي وقت سابق قال أمين العاصمة صنعاء في الحكومة الشرعية عبدالغني جميل إن "الميليشيات الحوثية هربت وأخفت ما يزيد على 14 ألف مخطوطة يمنية نادرة ومئات القطع الأثرية".