من بين التحليلات الاستباقية والأبحاث التي تحرص مراكز الأبحاث وخزانات التفكير في الغرب، وتتقدمها الولايات المتحدة، على نشرها، ما يتصل بحالة العنف والراديكالية في العالم مع مطلع كل عام، وغالباً ما تتخذ هذه المناقشات والمداولات والمؤتمرات محاولة لقراءة استباقية وتقدير موقف للوضع الحالي، وما يمكن أن يفضي إليه من مؤشرات تدل على زيادة أو تراجع منسوب العنف والتطرف والراديكالية.
المتابع لهذه التقارير التي بدأت تصدر تباعاً حول عام 2023 يلاحظ أن هناك تحولات كبرى على مستوى زوايا النظر والنتائج وتوسيع دائرة البحث، لكنها لا تخلو أيضاً من تحيّزات جغرافية وتركيز على الأولويات الداخلية «أمن الولايات المتحدة» بالدرجة الأولى من دون معالجة مسألة التطرف والإرهاب والعنف المحلي في دول كثيرة حول العالم، ما دامت أنها لا تطول الأمن القومي الأميركي أو تقترب من تحولها إلى مهدد حقيقي وجاد، وهذه معضلة نجدها حتى في التمييز بين الكيانات والدول والمجموعات الصغيرة أو الإرهاب اليميني العنصري الأبيض المتطرف، الذي بدأ يحتل مساحة كبيرة على أثر تعالقه مع الحالة الداخلية لدول غربية مع مؤشرات بصعود اليمين السياسي، بل وعودة «اليسار» مع الأزمات الاقتصادية والتضخم والتراجع الكبير على مستوى الدخل ومعدل الرفاه.
من الإيجابيات اليوم في الأطروحات الجديدة المتصلة بحالة «الراديكالية ومنسوب العنف»، الحديث عن دول وكيانات تشبه حالة الدولة، خصوصاً إيران، كما أن الحديث عن بيئات الإرهاب العابر للحدود والمناخ المهدد المدعوم من دول راعية للتطرف زاوية نظر جديدة، يتم التعبير عنها في المجتمعات البحثية المتخصصة في مسألة فهم الظاهرة العنفية ومكافحة الإرهاب.
وإذا استثنينا حالة التسييس الظاهرة في تلك التقارير مثل إقحام الصعود الصيني أو النزاع الروسي الأوكراني، فإن التركيز على الأنشطة الإيرانية في الشرق الأوسط مهم، ويجب البناء عليه خصوصاً مع الحديث عن الإرهاب السيبراني الذي يحتل نصيباً كبيراً في تلك المداولات.
التطرف العنيف التقليدي والجماعات الإرهابية رغم غياب نجمها عن تصدر شباك نشرات الأخبار والإعلام وعودتها إلى المجتمعات البحثية، ما زالت تتسع جغرافيتها رغم تراجع فاعليتها فهي اليوم من الساحل الأفريقي، إلى جنوب شرق آسيا مع تأزم وانهيار شبه كامل في بلدان أساسية من أفغانستان إلى الصومال واختطاف الحالة والمشهد اليمني من قبل الحوثيين.
تراجع الحالة الاقتصادية والاضطراب السياسي وحالة عدم الاستقرار، وتدهور الحالة المعيشية بحسب التقارير، كل ذلك يرشح عودة عدد من التنظيمات الإرهابية إلى العمل على إعادة إنتاج نفسها مجدداً، من خلال خلق مجتمعات صغيرة، خصوصاً في الدول التي لديها معضلة نفوذ وسلطة على المناطق الطرفية.
الجديد اليوم هو بداية الاهتمام الجاد بإرهاب الدولة الذي تمارسه طهران، وأيضاً بأخذ الإرهاب العنصري العرقي على محمل الجد، هناك لجان مشتركة اليوم لقراءة مسار التطرف العنصري الداخلي بين المركز الوطني لمكافحة الإرهاب، ومكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة الأمن الداخلي، والاستنتاج الأكبر أن هذه الموجات العنصرية اليمينية غالباً ما ترتبط بجهات خارجية توفر لها الدعم الآيديولوجي وتشجعها عبر شبكات تواصل اجتماعي خاصة أو ما أسميه «منصات الطائفة Cult platforms»، وما جرى في ألمانيا في الأسابيع الماضية كان مؤشراً جاداً على أن التطرف بغض النظر عن خلفيته أو لونه أو مذهبه، يمكن أن يفاجئ العالم حيث ما يظهر على سطح الأحداث قد يكون عملية إعداد طويلة سرّية وربما رقمية من الصعب انكشافها من دون استراتيجية استباقية طويلة الأمد مع متن صلب من المحتوى المضاد يحصن المجتمعات.
وكما أن الأمر يجب ألا يقتصر على تنبه ويقظة مراكز الأبحاث الأميركية لهذه التحولات، فيجب علينا اليوم في دول الاعتدال وفي مقدمتها السعودية ألا يغيبنا تراجع العمليات الإرهابية بفضل الاستراتيجية الاستباقية الرائدة، التي رفدتها بمناعة مجتمعية، خصوصاً للأجيال الجديدة، على اعتبار أن أمن المنطقة مرتبط بشكل وثيق ببعضه، حيث يدرك المراقبون اليوم في الحالة الإرهابية والراديكالية العالمية، الأنشطة المتزايدة بعد الانسحاب من أفغانستان بهدف التوسع والاستثمار في دول متاخمة مثل طاجيكستان، وهكذا تشتعل المنافسة بين «القاعدة» و«داعش» من دون أن يهتم الإعلام في خضم أزمات العالم بذلك، «داعش» مثلاً أعاد تفعيل حضوره في دولة غير متوقعة مثل نيجيريا، وبهجوم شرس على سجن كوجي النيجيري على بُعد 44 كم من السفارة الأميركية، حيث قام بإطلاق نحو ألف سجين بينهم عدد من أنصاره.
القرن الأفريقي وأفغانستان والدول المحيطة بها وإعادة استثمار طهران في القاعدة وبعثها، إضافة إلى موجات اليمين العنصري المتطرف في الغرب، أهم تحديات السنة الحالية على مستوى الراديكالية ومؤشرات العنف، وعلمتنا الأحداث على مدى عقود أن انهيار الاستقرار السياسي وتراجعات محتملة للاقتصاد بشكل حاد في عدد من البلدان النامية، قد يشكلان فرصة للخروج من حالة الكمون كما هو الحال في الدول الغربية، فيما يخص صعود اليمين وعودة صوت اليسار مجدداً وتلك قصة أخرى جديرة بالحديث.