السؤال:
صديقي ذكي موهوب محب لله وله نوايا حسنة كثيرة إن فتح له الرزق ولكنه عاصي ويعاني في المواظبة علي الصلاة ، ومع اجتهاده الشديد في أمور الدنيا واخذه بالأسباب كلها إلا أن كل خططه تبوء بالفشل (بعد أن تكاد تنجح وتقارب الاكتمال ، وهو أشق من فشلها في بادئ الأمر) وهذا مرارا وتكرارا ... يتسائل صديقي إن كان عدم توفيقه المستمر بسبب بعده عن الله ، ولكن إن كان كذلك فلم لا يحدث ذلك مع من ابتعدوا عن الله بالكلية وبلا نوايا حسنة وجهد وأخذ بالأسباب أقل ، لم يوفق هؤلاء بمعاصيهم ولا يوفق هو إن كان السبب حقا معاصيه ؟؟
الإجابة:
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فلا شك أن الرزق بيد الله وحده، وأن الإنسان مهما سعى في طلب الرزق فلن يأتيه إلا ما كتبه الله له، سواء رضي أم سخط، والسعادة في هذه الدنيا ليست بسعة الرزق - كما يظن من لا يعرفها - إنما هي بالإيمان، والرضى، وغنى النفس، والافتقار إلى الله والغنى به، فالدنيا بما فيها أهون من أن يضيق الإنسان ذرعاً لقلتها؛ ففي الصحيح عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس كَنَفَيه، فمر بجدي أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، فقال: " أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟"، فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به! قال: "أتحبون أنه لكم؟"، قالوا والله لو كان حياً كان عيباً فيه؛ لأنه أسك! فكيف وهو ميت؟ فقال: "والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم" .
والمقصود أن شأن المسلم أن يأخذ بأسباب الرزق، فإذا قصرت الأسباب عن نتائجها، فزع إلى الله تعالى بالدعاء والضراعة، والتوبة وكثرة الاستغفار، فهذه جالبة للرزق، مع تجنب موانع الإجابة، وتحري أوقات الإجابة، كثلث الليل الأخير وقت النزول الإلاهي، حينما يقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له .
أما من ابتعد عن الله بالكلية من أهل الكفر، فإن تمام عدْل الله - تعالى - أن كلَّ من أخَذَ بأسباب الرزق، أعطاه الله - تعالى - إن شاء الله؛ كما قال - تعالى -: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18]، قال ابن كثير في تفسيره - (5/ 62): "يخبر - تعالى - أنه ما كل من طلب الدنيا وما فيها من النعيم، يحصل له؛ بل إنما يحصل لمن أراد الله ما يشاء".
وقال سبحانه وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]، فرتَّب الثواب والعقاب على كونه يريد العاجلة، ويريد الحياة الدنيا، ويريد حرث الدنيا.
وقوله - تعالى -: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16]؛ أي: نوفِّ لهم أجور أعمالهم في الدنيا بسَعة الرزق، ودفع المكاره وما أشبهها، {وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ}؛ أي: في الدنيا لا ينقص حظهم.
وأما المؤمن، فيريد الدنيا والآخرة، وإرادته الآخرةَ غالبةٌ؛ فيُجازَى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة، وروينا عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله - عز وجل - لا يظلم المؤمن حسنةً، يثاب عليها الرزق في الدنيا، ويجزَى بها في الآخرة، وأما الكافر فيُطعم بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيرًا))؛ أفاده الإمام البغوي في تفسيره.
فلا تلازُمَ بين الكفر وسَعة الرزق، والواقع خيرُ شاهدٍ؛ فغالب الكفار في إفريقيا وآسيا يعيشون في فقرٍ مدقع، وعلى العكس كثير من المسلمين يعيشون في سعة رزق.
وإنما الواجب على المؤمن في جميع أحواله أن يرضى بالله ربا، وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه نبيًا ورسولاً؛ وهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، وله فيما خلقه حكمة بالغة، ونعمة سابغة، ورحمة عامة وخاصة، وهو {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ}[الأنبياء: 23]؛ لكمال حكمته، وكمال علمه وقدرته ورحمته، ، لا لمجرد قدرته وقهره؛ فإنه سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وقد أحسن كل شيء خلقه، وكل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل ،، والله أعلم.