في ذكرى داريّو

منذ 4 أشهر 77

تعيدني الذاكرة، خلال نزهاتي الصباحية في ربيع مدريد، إلى قصائد روبين داريّو الطويلة التي حفظتها عن ظهر قلب منذ أكثر من 60 عاماً. أين كانت هذه الأشعار مختبئة طيلة سنوات؟ في اللاوعي، أو العقل الباطن، وفقاً لنظرية العبقري سيغموند فرويد. كنت، في زمن المراهقة البعيد، شغوفاً بأعمال مخترع التحليل النفساني التي حضّني على قراءتها الدكتور غيرّا، أستاذ علم النفس في معهد «سان ماركوس»، الذي كان يشرح لنا النظريات الفرويدية مستعيناً بروايات دوستويفسكي، وكان له صوت ضعيف نكاد لا نسمعه كأنه زقزقة عصفور صغير. منذ تلك الفترة انقطعت عن قراءة فرويد إلى أن ربطتني في لندن صداقة وطيدة بماكس هيرنانديز الذي كان يجري تحليله المهني في معهد «تافيستوك» وأثار فضولي للعودة إلى كتبه. كانت أياماً خصبةً نهايات الأسبوع في لندن حينذاك، تجمع بين التحليل النفساني، والتسكّع في المكتبات القديمة قبل تمضية بقية النهار مع الثوريين الفوضويين البريطانيين الغاضبين على الغرب، والحالمين بأفكار باكونين وكروبوتكين القائلة بأن أوروبا، بعد احتضارها، ستنهض مجدداً في مكان بعيد على تخوم غابة الأمازون.

اكتشفت داريّو في ندوة نظّمها لويس ألبرتو سانتشيز لطلاب الدكتوراه في كليّة الآداب بعد عودتي إلى البيرو من المنفى في الفترة الأخيرة من دكتاتورية الجنرال أودريّا مطالع عام 1956. كان أستاذاً رائعاً، دون الصرامة التي كانت السمة الغالبة على زميله بورّاس بارّينيتشيا الذي كان يكشف لنا في دروسه المصادر التاريخية عن نتائج بحوثه الشخصية، لكنه كان محفزّاً لطلابه وقريباً من هواجسهم دائماً، لا يبخل بالطرائف والأخبار المشوّقة والمحادثات التي كانت تضفي على ندوته الكثير من البهجة والنشاط. وكنّا، فور انتهاء ندوته، نهرع إلى المكتبة القديمة لمطالعة الكتب التي كان قد شرحها لنا. أما قصيدته بعنوان «توبيخ فرلين»، التي ما زالت هي الأثيرة عندي، فقد اضطررت لقراءتها أول مرة برفقة القاموس لأتبيّن معاني عشرات العبارات الغامضة والجميلة التي تزخر بها.

أتذكّر نقاشاً حامياً دار في باريس مع الشاعر التشيلي أنريكي لين الذي كان قد نشر في مجلة «Casa de las Américas» قصيدة رائعة ومجحفة يسخر فيها من روبين داريّو وشخصيات أشعاره من أميرات وطيور وحيوانات أليفة.

كان لين، على غرار الكثير من الشعراء، يتبرّم من أجواء الحداثة التي تميّز قصائد داريّو، حيث تتمازج الاستعارات الإغريقية القديمة بمشاهد الحياة الفرنسية الراقية في القرن الثامن عشر. وكان من أنصار الشعر الذي ينأى عن الإفراط في الوصف والتغنّي بمظاهر الحياة، ويغوص في أعماق النفس ومتاهات الوجود. كانوا على خطأ في موقفهم من داريّو الذي كانت له قصائد عميقة تجوب دهاليز النفس المعذّبة وتطلّ من شرفاتها على الكوابيس والأحلام كما في رائعته «فرنسيسكا سانتشيز، رافقيني». وقد أتاحت لي الظروف أن أتعرّف على فرنسيسكا التي حملني إلى منزلها في مدريد أستاذي في الجامعة أنطونيو أوليفر بلماس. كانت امرأة مسنّة، صغيرة تلفّ شعرها بمنديل وحريصة على احترام الألقاب عند مخاطبة الراحل الكبير الذي كانت تناديه دائماً بالقول «دون روبين». عندما سافر داريّو إلى الولايات المتحدة ليبدأ مغامرته التي كان دائماً يحلم بها، ولم يعد منها، عادت هي إلى قريتها في قشتالة مع أرشيفه الكامل الذي وضعته بعد ذلك في عهدة الدولة الإسبانية. سألتها ماذا تعرف عن العلاقة المتوترة التي كانت قائمة بين داريّو والكاتب البيروفي خوسيه سانتوس تشوكانو فقالت: «كان دون روبين يخافه كثيراً، ويخشى من ردود فعله العنيفة». ونعرف من الرسائل المتبادلة بين الاثنين، أن سانتوس تشوكانو كان يهدّد داريّو بالضرب إذا رفض أن يمتدحه في مقالاته.

الحقيقة هي أن داريّو كسر القوقعة التي كان يكاد يختنق فيها الشعر باللغة الإسبانية التي، منذ كيفيدو وغونغورا، كانت تنكمش وتتضاءل محشورة في الدوائر المحلية الضيقة، وأطلقها تغزو العالم بحلة جديدة لم تكن في متناول الشعراء الفرنسيين أو البريطانيين أو الألمان الذين كانوا جميعاً يقرضون الشعر تحت وطأة التقاليد الموروثة. إن الحرية والجرأة اللتين وسمتا قصائد داريّو أعتقتا الشعر باللغة الإسبانية من أصفاده الإقليمية والمحلية، وأعادتاه إلى مصاف العالمية الكلاسيكية. وبفضله وضع نيرودا ملحمته «النشيد العام»، وأهدانا فايّخو روائعه، وفي الطرف الآخر صعد بورخيس باللغة إلى قمم لم تبلغها سوى النسور معترفاً بصراحة لا تقبل الشك أو الجدل عندما قال: «إن ما قام به داريّو لن تكون له نهاية، والذين حاربناه يوماً، ندرك اليوم أننا نسير في خطاه». وقد أصاب سرخيو راميريز عندما اختار للبحث الرائع الذي وضعه حول شعره عنوان «المحرّر».

دفعني انبهاري بداريّو إلى اختيار قصصه موضوعاً لبحثي في الشهادة الثانوية. وكان الأستاذان المشرفان على البحث، لويس ألبرتو سانتشيز وآوغوستو تامايو فارغاس، يدفعاني إلى مراجعة المقتطفات مرة تلو الأخرى، ويصرّان على التدقيق في المراجع. لكن ما جاء بعد ذلك كان أسوأ بكثير، عندما كان المشرف على أطروحتي لنيل الدكتوراه حول غارسيّا ماركيز، الأستاذ ألونسو زامورا فيسنتي، يلزمني طيلة سنوات بالمزيد من التصويب والتدقيق والتفاصيل خلال النزهات التي كنا نقوم بها في أحياء مدريد العريقة. يومها كانت لا تزال الأطروحات الجامعية لنيل الدكتوراه لها أهميتها، أما اليوم فقد أصبح الميل جارفاً إلى الانتحال والسرقات الأدبية بلا وازع أو عقاب.

طوال نزهتي هذا الصباح كنت أتمتم قصيدة «أناشيد الحياة والأمل» التي مطلعها «أنا الذي كان بالأمس يقول...»، وأكرر قصيدة «توبيخ فرلين» ما لا يقلّ عن ثلاث مرات متتالية. وأتذكّر أن لويس ألبرتو سانتشيز أخبرنا في حلقته الدراسية أنه اشترى يوماً، بحفنة من الفرنكات من إحدى مكتبات باريس، نسخة «قصائد بذيئة» التي أهداها روبين داريّو موقعة بخط يده إلى ريمي دي غورمون الذي كان شديد الإعجاب به. وأن الكتاب كان لا يزال بخاتمه، أي أن المؤلف الموسوعي الفرنسي الذي كان في أوج شهرته يومذاك، لم يطّلع على ذلك التكريم الذي خصّه به ابن نيكاراغوا من أقاصي الدنيا في ذلك الكتاب الذي يساوي كل كتبه مجتمعة. لا أعتقد أن ريمي دي غورمون يقرأه كثيرون اليوم، حتى أن كتبه لم تعد موجودة على رفوف المكتبات الفرنسية. لكن ذلك الشاعر البعيد الذي كان معجباً به، لا يزال محجة القراء والباحثين، على ضفتي المحيط الأطلسي، وإني على يقين من أن عددهم يزداد يوماً غبّ اليوم.