♦ الملخص:
شاب يدرس في أوروبا، لديه رغبة عارمة في الاستعفاف والزواج؛ لكثرة ما يراه من مناظر تغضب الحقَّ جل جلاله، لكنه لا يستطيع لأنه لا مال عنده، ويسأل: لمَ هذا الوضع، والله عز وجل يريد من عباده العفة؟
♦ التفاصيل:
أنا شاب أبلغ الثالثة والعشرين من العمر، اضطررت للجوء إلى بلاد الغرب في السابعة عشرة، وأحببت فتاة مسلمة ومحجبة في المدرسة من نفس بلدي فور وصولي، قررنا الانفصال بعد مدة سنة؛ خوفًا من الله، ولأننا نعرف أن ما بيننا لا يُرضي الله، الحمد لله لم تقع بيننا الفاحشة، تدهورت حالتي النفسية، وتراجع تحصيلي العلمي، انتقلت لمدارسَ عدة، وفشلت عدة مرات، وللأسف الشديد ضاعت سنوات من عمري محاولًا دخول الجامعة، الحمد لله استطعتُ أن أبدأ في دراسة مجال الهندسة في عمر الثالثة والعشرين بعد إعادة دراسة الثانوية مرتين، لا أحتاج أن أصفَ لكم ما أراه كل يوم في الشوارع والأماكن العامة من مناظرَ لا تُرضي أي إنسان عفيف، أنا محافظ على الصلوات، وتبت إلى الله توبة نصوحًا، منذ تركت هذه الفتاةَ، والحمد لله أحظى برضا والديَّ، مستعينٌ بالصبر، وغض البصر، والصلاة، مرت السنون وأنا أدعو الله بالزواج المبكر والستر والعفة، دائمًا مشتت ولا أستطيع التركيز في الدراسة، حاولت الصوم مرارًا وتكرارًا بلا فائدة، شهوتي تغلبني، استشرت شيوخًا عدة ولم أقصر بواجباتي وفروضي الدينية، عرضت على والدتي موضوع الزواج وللأسف لم تتشجع، لا أريد أن أضغط على أهلي ماديًّا، ولكني لا أملك شيئًا؛ فلا مال ولا عمل ولا بيت، شعاري اليومي هذه الآية: ﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النور: 33]، وهذه الآية: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]، حاولت التقدم لهذه الفتاة مرات عدة على مر السنين، ولكنها ترفض بسبب الدراسة ورغبتها بتحقيق أمور دنيوية أخرى؛ كالعمل وغيره، فانصرفتُ عنها، أرى فتياتٍ صالحات، لكني لا أستطيع أن أفعل شيئًا، أنا مؤمن بالقضاء والقدر، وأعلم أنني سآخذ رزقي في الوقت المحدد لي، وقد منَّ الله عليَّ بنعم كثيرة، ولكن دائمًا أتساءل: لماذا نعاني هذه المعاناة ورب العالمين يحب أن يرى عباده مطيعين له بالعفة؟ أشيروا عليَّ حفظكم الله، وجزاكم الله خيرًا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:
فمشكلتك محصورة في الآتي:
1- رغبتك في الاستعفاف وعدم قدرتك المالية عليه.
2- معاناتك الشديدة من مظاهر التبرج الصارخ في الدولة الأوربية التي تُقيم بها.
3- تساؤلك: لماذا بعض الناس يعانون هذه المعاناة الشديدة، وربنا سبحانه يُحب أن يكونوا مطيعين له بالعفة؟
فأقول مستعينًا بالله سبحانه:
أولًا: بالنسبة لرغبتك في الاستعفاف بالحلال، وعدم قدرتك على تكاليفه المالية؛ فعليك بالآتي:
1- الدعاء، وهو علاج مهم جدًّا جدًّا، بل هو أقوى وأعظم العلاجات، ولا أريدك أن تقول لي: دعوت ودعوت، ولم يستجب لي، أَكْثِرْ وألحَّ على ربك سبحانه، ولا تيأس أبدًا، فاسأل الله عز وجل أن يرزقك الزوجة الصالحة، وأن يسهل لك الحصول على تكاليف الزواج، وتأكد أنك بدعائك تطبق عبادة وقربة عظيمة لله سبحانه؛ وتذكر قوله سبحانه: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62]، وأنت عندما تدعو، ستكون بأحد النتائج المذكورة في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يُعجِّل له دعوته، وإما أن يدخِّرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها))؛ [رواه أحمد والحاكم، وصححه الألباني].
فالله سبحانه قد يجيب الدعاء حالًا، وقد يؤخره ابتلاءً وامتحانًا، وقد يصرف من الشر مثله، وقد يدخره لك درجة في الآخرة.
2- إن استطعت أن تجمع بين الدراسة وطلب الرزق بعمل بسيط في شركة أو بيع، فذلك طيب.
ثانيًا: الحياة الدنيا فيها جهاد وصبر، والذين يجاهدون أنفسهم على الطاعات وترك المعاصي لهم أجر عظيم، وفضل عظيم أعظم من تحقيق أمنياتهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]، وقوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].
ثالثًا: مما يسليك أن تتذكر أنك تُؤجَرُ أجرًا عظيمًا على صبرك وعلى مجاهدتك لنفسك؛ وتذكر قوله سبحانه: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].
وقوله عز وجل: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 22، 23].
رابعًا: ومما يسليك أن تتذكر أن الزوجة المكتوبة لك ستحصل لك في الوقت الذي قدره الله لك، ولن يمنعها مانع مالي ولا غيره؛ قال سبحانه: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ﴾ [القمر: 49، 50].
خامسًا: أما معاناتك الشديدة من مظاهر التبرج الصارخ، فخفِّف من آثارها بالدعاء وبغضِّ البصر قدر استطاعتك، وبتذكر الأجر الأخروي على صبرك وتحملك؛ وتذكر الحديث الآتي؛ روى الترمذي وأبو داود وابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((... فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عملكم، وفي رواية: قيل: يا رسول الله، أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم)).
سادسًا: أما تساؤلك: لماذا بعض الناس يعانون هذه المعاناة الشديدة، والله سبحانه يريد منهم طاعته وعدم معصيته؟
فالجواب عنه بالنصوص الآتية:
قال سبحانه: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 3].
فدارُ الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وللصابرين أجر عظيم؛ كما قال سبحانه: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].
وقال عز وجل: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].
وتأمل كثيرًا الحديث التالي لتعلم عظم أجر صبرك؛ عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من عبدٍ تصيبه مصيبة، فيقول: ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 156]، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها، إلا أجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها، قالت: فلما تُوفي أبو سلمة، قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخلف الله لي خيرًا منه؛ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم)).
سابعًا: قد ابتُليَ الأنبياء والصالحون قبلك ببلايا عظيمة، بل بعضهم قُتلوا في سبيل دينهم، فلم يردهم ذلك، ولم يشكوا في الله سبحانه ولا في قدرته عز وجل، بل صبروا وثبتوا واحتسبوا الأجر؛ ومن ذلك قوله سبحانه: ﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة: 87]، وقوله تعالى: ﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾ [آل عمران: 21]، وقوله تعالى: ﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 61].
وكذلك قتل المشركين لبعض الصحابة مثل سمية بنت خياط أول شهيدة في الإسلام، وقتل زوجها ياسر رضي الله عنهما.
حفظك الله، وثبتك، وأعاذك من شرور الفتن، ورزقك زوجة صالحة تقر بها عينك، وصلِّ اللهم على نبينا محمد ومن والاه.