السؤال:
فهمت من الفتاوى عدم جواز صيام شعبان بقبل رمضان يوم أو يومين. لكني أرى في الشروحات تعميم ذلك على النصف الثاني كله من شعبان، فلم ذلك؟
أصوم أحيانًا أسبوعًا قبل رمضان حتى أعتاد الصيام لأن الأيام الأولى تكون صعبة من كل سنة، فإن عوّدت نفسي يومين متتابعين أو ثلاثة، دخلت رمضان وأنا أشعر بيسر أكبر. أما عادتي، فأنا قد أصوم الاثنين والخميس في أوقات متفرقة في العام، وأصوم الست من الشوال أو عشر ذي الحجة بقدر استطاعتي، فمتى يعتبر صيامي عادة؟
الإجابة:
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فالذي يظهر أن هذه المسألة أعني تنوع السنن الصحيحة الواردة في صوم شهر شعبان تنبي على قاعدة كبيرة، وكلية من كليات الشريعة المطهرة، وهي تنوع فضائل الأعمال، فليس بين تلك الأحاديث تعارضٌ، وإنما ثمّ تنوع يناسب حال كل مكلف، والأفضل المطلق ما كان أشبه بحال النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن المقرر عند أهل العلم أن فضائل الأعمال إنما هي بنتائجها وعواقبها الحميدة على قلب المكلف، ولذلك كان فعل ما هو أطوع وأخشع للمكلف هو المشروع في حقه، ولا يخفى أن هذا يتنوع بتنوع أحوال الناس، فتارة يتنوع بحسب أجناس العبادات، فجنس الصلاة أفضل من جنس القراءة، وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء، وتارة يختلف باختلاف الأوقات، وباختلاف عمل الإنسان الظاهر، باختلاف الأمكنة والأزمنة، وباختلاف مرتبة جنس العبادة، فالجهاد أفضل من الحج، وتارة يختلف باختلاف حال القدرة والعجز، فما يقدر عليه من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه، وإن كان جنس المعجوز عنه أفضل، والحاصل أن الأفضل في حق المكلف المعين ما كان أنفع لقلبه، وأطوع لربه، ولا يلزم من هذا أن يكون أفضل لجميع الناس، وكل هذا إنما يدل على كمال الشريعة الخاتمة، وأنها نزلت من الله العليم الحكيم اللطيف الخبير، فالله سبحانه بعث محمدًا بالكتاب والحكمة وجعله رحمة للعباد وهاديًا لهم، وكل إنسان إنما يأمر بالأصلح له؛ وهذا هو سر تنوع فضائل الأعمال، فالتطوع بالعلم أفضل لأهله، كما أن التطوعه بالجهاد أفضل لمجاهد، ومنهم من يكون تطوعه بالعبادات أفضل، وهكذا.
إذا تقرر هذا، فهدي النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه كان يصوم شهر شعبان كله؛ كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - في الصحيحَين، قالت: "ما رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلَّم - استكمل صيامَ شهرٍ قطُّ إلا رمضان، وما رأيتُه في شهرٍ أكثر صيامًا منه في شعبان"، زاد البخاري في روايةٍ: "كان يصومُ شعبان كلَّه"، ولمسلمٍ في رواية: "كان يصومُ شعبان إلا قليلاً"، وفي روايةٍ للنَّسائي: "كان أحبَّ الشهور إليْه أن يصومه شعبانُ، كان يصِله برمضان".
وفي الصحيحَين من حديث عمران بن حُصين - رضي الله عنْهما - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليْه وسلَّم - قال له أوْ لآخَرَ: ((أصُمْتَ من سَررِ - بفتْحِ السين وكسرِها - شعبان؟)) قال: لا، قال: ((فإذا أفطرْتَ - أى: من رمضان - فصُمْ يومَين)).
قال الإمام النَّووي - رحِمه الله -: "قال الأوزاعي، وأبو عُبيدٍ، وجُمهور العُلماء من أهل اللغة والحديث والغَريب: المراد بالسَّرر آخِر الشَّهر؛ سمِّيت بذلك لاستِسْرار القَمر فيها".
وعن أعن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: "ما رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليْه وسلَّم - يصومُ شهريْن مُتتابعَين إلا شعبانَ ورمضان"؛ رواهُ أبو داود، والنَّسائي، والتِّرمذي وحسَّنه.م سلمة وعائشةَ - رضي الله عنهما - قالتا: "كان رسولُ الله - صلى الله عليْه وسلَّم - يصومُ شعبان إلا قليلاً، بل كان يصومه كله"؛ رواه الترمذي.
كما أنه سنَّ رسول الله للأمة سنة أخرى وهي صوم شهر شعبان إلا يوم أو يومين كما في حديث أبي هُريْرة - رضي الله عنه - الصَّحيحين أن النبي - صلى الله عليْه وسلَّم - قال: ((لا تَقَدَّموا رمضانَ بصومِ يومٍ أو يومين؛ إلا رجُلاً كان يصوم صومًا، فليَصُمْه)).
وكذلك سنّ رسول الله سنة ثالثة وهي عدم الصوم النصف الثَّاني من شعبانَ، كما روى أبو داودَ وغيرُه، عن أبي هُريْرة: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا انتصف شعْبان، فلا تصوموا حتَّى يكونَ رمضان))؛ وقد صحَّحه الألبانيُّ في صحيح الترمذي.
وقال الحافظ في "فتح الباري": "وقَال جُمْهُورُ العُلَمَاءِ: يجُوزُ الصَّومُ تَطَوُّعًا بَعْدَ النِّصْفِ من شَعْبَانَ، وضَعَّفُوا الحَدِيثَ الوَارِدَ فيهِ، وقَالَ أَحْمَدُ وابْنُ مَعِينٍ: إِنَّهُ مُنْكَرٌ".اهـ.
غير أن الراجح صحة الحديث كما حققه الإمام ابن القيِّم - رحِمه الله - في "تهذيب السنَن" وأجاب على مَن ضَعَّفَ الحديثَ ثم قال: "وأَمَّا ظَنُّ مُعَارَضَته بِالأَحَادِيثِ الدَّالَّة علَى صِيَام شَعْبَان، فَلا مُعَارَضَةَ بَيْنهُمَا، وإِنَّ تِلكَ الأَحَادِيث تَدُلُّ عَلَى صَوْم نِصْفِه مَعَ مَا قَبْله، وعلى الصَّوْم المُعْتَاد في النِّصْف الثَّاني، وحَدِيث العَلاء يَدُلُّ عَلَى المَنْع مِنْ تَعَمُّد الصَّوْم بَعْد النِّصْف؛ لا لِعَادَةٍ، ولا مُضَافًا إِلى مَا قَبْله".اهـ.
وقال القاضى عياض - رحِمه الله - في حديثِ النَّهي عن صيام النِّصف الثاني من شعبان: "المقصودُ استِجْمام مَن لا يقوى على تتابُع الصِّيام، فاستحبَّ الإفْطار كما استحبَّ إفْطار عرفة؛ ليتقوَّى على الدُّعاء، فأمَّا مَن قَدر، فلا نَهيَ له؛ ولذلك جَمع النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بين الشَّهريْن في الصَّوم".اهـ.
إذا تقرر هذا علم أن الرَّاجح ما ذكرناه من تنوع عبادة الصوم بحسب حال المكلف تيسيرًا من الشارع الحكيم، فمن قوي على التأسي برسول الله في صيام جميع شعبان شرع له ذلك وأصاب السُّنَّة، ومن ضعف فيصوم بحسب طاقته، ومَن كانتْ عادته صيام أكثَرِ الشَّهر إلا أيام شرع أيضًا، وهكذا،، والله أعلم