الخيزران مهنة أثرياء غزة… تحول أصحابها إلى فقراء

منذ 2 سنوات 217

من بين أكوام الخيزران التقط العم طارق عوداً طويلاً لساق "البامبو"، مسكه بيديه وكأن بينهما سابق معرفة، نظر إليه بتمعن ثم أخذ يقلب فيه باتجاهات عدة، قبل أن يصحبه معه في جولة أخيرة داخل ورشته الصغيرة التي يعمل فيها على تحويل الخيزران إلى أثاث منزلي جميل.

كان العم طارق يمشي بتثاقل شديد، ويعكز على ساق البامبو، وعلى كرسيه الخشبي القديم جلس أمام لهب شديد الاشتعال، ثم أطرق لدقائق معدودة، وبعدها بدأ في تقليب الخيزران على النار، ليتمكن من تطويعه حتى يتحكم فيه بسهولة.

الوريث السادس

لكن عود الخيزران هذا يبدو أنه لا يرغب في مفارقة الورشة، إذ مكث على اللهب لدقائق من دون جدوى في تطويعه، "عودك قاسي، وسأتعب في العمل معك، لذلك وضعتك في رأسي وعليك التجاوب معي من أجل تحويلك إلى كرسي هزاز"، قال العم طارق مخاطباً ساق البامبو.

يتحدث العم طارق مع عيدان الخيزران بشكل مستمر ويتعامل معها بلطف شديد، فبينه وبينها علاقة قوية وقديمة، إذ يعمل العم منذ 50 سنة في مهنة تحويل الخيزران إلى أثاث منزلي، هذه المدة الطويلة التي قضاها الرجل في حرفته، خلقت بينه وعيدان البامبو علاقة صداقة قوية. ويقول "أعتبر أن الخيزران أفضل رفيق لي، فنحن على علاقة ممتدة معه، لقد كانت هذه الأعواد الخشبية صديقة جد جدي، واليوم أنا الوريث السادس للحرفة التراثية".
لم تنقطع سلالة العم طارق عن مهنة الخيزران، وبسبب حبه لهذه الحرفة التراثية علمها لأبنائه، وتعاهد معهم على تدريب صغارهم عليها، إذ يعد الأثاث المنزلي المصنع من سيقان البامبو جزءاً من التراث الفلسطيني، واقتنائه في البيوت يعد إلزامياً بخاصة في المنازل الريفية والبدوية.


مهنة تراثية يدوية

إصرار العم طارق على الحفاظ على مهنة الخيزران، نابع من حبه لهذه الحرفة، لكن ليس هذا السبب الوحيد، إذ يحاول الحفاظ عليها كونها باتت جزءاً من التراث الفلسطيني، وبحسب مركز المعلومات الفلسطيني (مؤسسة حكومية) فإن العمل في صناعة الأثاث من الخيزران مر عليه أكثر من 100 سنة، وأية حرفة تمضي عليها تلك المدة تتحول إلى مهنة تراثية وتدخل في قوائم التراث الفلسطيني.

كانت عائلة العم طارق أول من استطاع تحويل أعواد الخيزران البسيطة إلى تحف فنية شديدة الإتقان، إذ بدأت العمل في هذا المجال منذ عام 1929، وبالواراثة انتقلت الحرفة اليدوية إليه، ولنحو خمسة آلاف عامل آخرين غيره، كانوا يعملون في 150 ورشة لهذه الحرفة.
لكن مع سوء الأوضاع الاقتصادية في غزة ووقف تصدير منتجات الخيزران انخفض عدد العمال إلى نحو 50 فقط، يعملون في خمسة مشاغل متبقية في غزة، إلا أن العم طارق يوضح أن "هذا لا يعني أن المهنة شارفت على الاندثار، بل العكس ما زالت هذه الحرفة تحافظ على وجودها"، مشيراً إلى أن "الذي تغير فقط هو السوق إذ اقتصرت حالياً على الترويج المحلي، وهذا سبب عزوف بعضهم عنها من دون أن تتأثر الحرفة".
على رغم قضاء العم طارق سنوات طويلة في المهنة، إلا أنه ما زال يواجه صعوبات أحياناً في عمله، فهذه الحرفة ليست سهلة، بل تحتاج إلى مهارة ودقة وتركيز، ويقول إنها "تعد من الحرف اليدوية التراثية المهمة التي تعبر عن الماضي العريق، وتحتاج إلى مجهود كبير وسنوات طويلة من الخبرة لإتقانها".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


التركيز

ليست الخبرة المهارة الوحيدة المطلوبة في مهنة العم طارق، إذ يشير إلى أن "صناعة الخيزران تعتمد أساساً على الأيدي العاملة والعقل المفكر، وتتطلب جهداً وعملاً دؤوباً، فالصناعات اليدوية تحتاج إلى كثير من الدقة والتركيز".

ويستخدم العم طارق جميع أنواع الخيزران في صناعته، بما فيها الفرنسي والأكليس والمالكان، ويحولها إلى أشكال فنية وأثاث للمنزل. وحول طريقة عمله، يوضح أن البامبو عبارة عن ألياف مرنة، ولكن يوجد منها ما يتم تشكيله عن طريق الماء أو النار، لافتاً إلى أن آليات العمل هي نفسها التي تعلمها من جده منذ مئات السنوات من دون أن يطرأ عليها تجديد.

وحول مراحل صنع الأثاث بالخيزران، يشير إلى أنه يقطع السيقان بحسب الطول المناسب ثم ينقعها بالماء المغلي حتى تصبح لينة، بعدها يتخلص من الألياف البارزة من خلال تمريرها على اللهب، ثم تأتي مرحلة تشكيل قطع الأثاث، وأخيراً توضع العيدان في مكان مشمس من أجل إكسابها القسوة.

أثرياء لكن فقراء

يصنع العم طارق علاقة الملابس والكرسي الهزاز وأطقم الكنب وطاولات الطعام أو الضيافة، كما يبدع في صناعة أسرة الأطفال وعكاكيز المسنين وغيرها كثير من الأثاث المنزلي المعاصر الجميل، وكل هذا يقوم بإنجازه بناء على طلب المشتري. وعلى رغم استمرار عمل العم طارق، إلا أنه يحن إلى قطع أثاث انقرضت منها الكرسي الإنجليزي والكرسي البلدي.

حتى عام 2007، كان العم طارق يصنع نحو سبعة آلاف قطعة أثاث منزلي من الخيزران، للتسويق المحلي والتصدير خارج غزة، وكانت تسوق منتجاته في إسرائيل والضفة الغربية والأردن وعدد من الدول العربية الأخرى.

كانت تلك مهنة تدر أرباحاً طائلة في ذلك الوقت، ووصل دخل العم طارق الشهري حينها إلى نحو ثمانية آلاف دولار أميركي. ويقول "قبل 20 سنة كان يطلق على الأشخاص الذين يعملون في صناعة الخيزران لقب أثرياء غزة، لكن اليوم باتوا فقراء غزة".

تغير الوضع على أصحاب المهنة، كما تغير على جميع سكان غزة، مع منع السلطات الإسرائيلية التصدير من القطاع، وباتت تلك الحرفة تعتمد على التسويق المحلي فقط، ويشير المتحدث ذاته إلى أن "المستهلك في غزة وضعه الاقتصادي مترد ولا يمكنه شراء الكميات نفسها التي كانت تصدر إلى خارج غزة، وهذا أثر فينا بشكل كبير لدرجة أننا نعمل فقط من أجل تلبية حاجات بيوتنا".