إسرائيل التي تشبهنا

منذ 1 سنة 178

في العالم العربي، والشرق الأوسط عامة، دول جمهورية في نظام حكمها، أو ملكية بتفعيل آلية الانتخابات الشعبية. ودرجنا على أن نتابع طقوس الديمقراطية في الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية في هذه الدول، رغم النتائج المحسومة سلفاً في غالبية الحالات، لكنها نوع من الديمقراطية التي يمارسها معظم دول المنطقة وتزعم نزاهتها وامتيازها كخيار عادل.
كان الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر يعادي الأنظمة الملكية ويَصِمُها بالتخلف، ولم يتردد في استعدائها، وتدخَّل بكل قوته الإعلامية والعسكرية لإسقاط هذه الأنظمة وتشجيع أنظمة الحكم الجمهوري في العالم العربي، متعللاً بعدالة هذه الأنظمة من خلال برامجها الانتخابية وفرص الاقتراع الشعبي. لكنَّ الواقع أن الديمقراطية التي أصَّلها حكم الأغلبية وفق اختيار الجمهور، وتفصل بين السلطات الثلاث؛ القضائية والتشريعية والتنفيذية، كانت شكلية، لأن المنتصر لا يبني دولته، بل يبني قاعدته السياسية التي تضمن بقاءه في السلطة لسنوات كثيرة، سواء شخصياً أو من خلال تمكن حزبه من مفاصل القوة في المؤسسات الحكومية ومع رجال الأعمال، والنافذين، والأكثر خطراً هو السيطرة على النظام القضائي متمثلاً بشكل أساسي بالمحكمة الدستورية.
لذلك لا يوجد نموذج ناجح للديمقراطية في الشرق الأوسط والعالم العربي، والدول الأكثر ازدهاراً واستقراراً هي تلك التي لا يزال فيها الملك أو السلطان مرجعاً أصيلاً لإدارة الدولة.
استثناءً من هذه القاعدة، كانت إسرائيل تباهي العالم بأنها الديمقراطية الحقيقية الوحيدة في المنطقة، وأن ما يسميه العرب احتلالاً هو نظام حكم ديمقراطي يعطي الجميع فرص الاختيار والانتخاب، ويمنح بذلك مستوى عالياً من العدالة الاجتماعية. منذ قيام دولة إسرائيل في عام 1948 كانت تغذّي سمعتها من خلال التلويح بنظامها السياسي، المتفرد، الدخيل على منطقة مخلخلة غير مستقرة في أنظمتها السياسية وتعاني الفساد. لكن مع الأحداث التي اشتعلت في إسرائيل منذ مطلع العام الحالي هناك قراءة أخرى للمشهد.
رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، رجل صاحب خبرة طويلة في العمل السياسي، يملك كاريزما جعلته منذ شبابه يعتلي مواقع قيادية سياسية وعسكرية في إسرائيل. فاز برئاسة الحكومة ست مرات، في حالة لم تتكرر منذ قيام دولة إسرائيل. وفي كل مرة من المرات الست، كان ينتزع الفوز بعد معارك ضارية مع خصومه، مستغلاً خوف الإسرائيليين من أعدائهم، خصوصاً حركتَي «حماس» و«الجهاد»، وكذلك «حزب الله» في لبنان. ورغم أنهم أعداء حقيقيون، فإن نتنياهو كان يروّع الشارع الإسرائيلي أكثر من واقع الحال، مدّعياً أنه الوحيد القادر على توفير الأمن وصد شرور الأعداء. الورقة الأمنية كانت دائماً رابحة وفق المعطيات التاريخية والأحداث السياسية، لذلك كان متمسكاً بها حتى ضد محاولات عقد اتفاقيات سلام مع الفلسطينيين. ويكفي لفهم الصورة أن أول حكومة ترأسها كانت بعد اغتيال إسحاق رابين، رجل السلام. انتهز نتنياهو اغتيال رابين ليقول للإسرائيليين إن السلام مع العرب حلم كاذب، وإن ملاذهم الوحيد هو القوة.
نتنياهو القوي العنيد، تمادى في غروره إلى درجة أنه تدخل في السلطة القضائية لإضعافها لصالح الحكومة، حصانة لنفسه من العزل أو المحاكمة بسبب تهم الفساد التي تلاحقه. مشروع الإصلاحات القضائية الذي حاول فرضه كان يهدف بالدرجة الأولى إلى حمايته الشخصية، وضمان بقائه في السلطة دون قلق من المحاسبة. هذا الأمر تسبب في موجة احتجاجات غير مسبوقة في الشارع الإسرائيلي. مئات الألوف من المحتجين خرجوا للشوارع رافعين شعارات تذكّر نتنياهو بالديمقراطية، وخطورة المساس بالنظام القضائي. والحقيقة أن القضاء هو عِرض الدولة، والمساس به هو انتهاك لحرمة وسيادة الدولة، أياً كانت. أخطر ما يواجه نتنياهو اليوم ليس فقط محتجي الشارع، بل الجيش الغاضب الذي لطالما كان ظهره الذي يستند إليه، حتى وزير الدفاع لم يرضَ بمشروع الإصلاحات القضائية، وانفعل نتنياهو فأقاله. إسرائيل اليوم، حكومة وشعباً، منقسمة بسبب مشروع الإصلاحات القضائية التي تُمكّن الحكومة من اختيار القضاة، وتهميش دور المدعي العام. ما يحصل في إسرائيل هو طعن للديمقراطية في مقتل، وكل السخرية التي كان الإعلام الإسرائيلي يتناولها حول ديمقراطية المنطقة العربية نراها اليوم داخل دولة إسرائيل. هل أصبحت إسرائيل تشبه الدول التي كانت تعيب عليها ديمقراطيتها؟ هل يتراجع نتنياهو العنيد عن كل هذه الإصلاحات التي عطّلت عمل النقابات المهنية فتعطلت الأنشطة؟
في رأيي أن ما يحصل لنتنياهو أمر شخصي، وما يقوم به من تجميع لأصوات تؤيده، مرجعه الخوف من خاتمة لا تليق بتاريخه. لقد تجرأ على إنشاء قوة عسكرية تحت اسم الحرس الوطني، في حقيقتها أشبه بميليشيا، لا قانون لها سوى ما يطلبه رئيس الحكومة. قوة الحرس الوطني ليست حمايةً من الفلسطينيين كما يدّعي، هي قوة ضد أي كيان أو شخصية تمسّ بقاء نتنياهو في سدة الحكم، وأهمها النظام القضائي، وخصومه السياسيون.
في النهاية، ديمقراطية نتنياهو لا تختلف عن الديمقراطية في منطقتنا، شعارات تضمن الوصول، وممارسات تضمن البقاء.