أما رابعهم فهو المُدَّعي خان

منذ 1 أسبوع 32

ليست المرة الأولى التي تخرج فيها مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية بحق شخص تراه متهماً أمامها بجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، ولن تكون المرة الأخيرة في الغالب، ولكنها المرة التي سوف يؤرخ بها المهتمون بشأن المحكمة، إذا جلسوا يوماً يستعرضون مسيرتها الطويلة مع المذكرات المماثلة الصادرة عنها.

أما كريم خان، المدعي العام للمحكمة، فسوف يدخل التاريخ من الباب نفسه الذي دخل منه أنطونيو غوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة.

سوف يدخله من هذا الباب، عندما تضع الحرب على الفلسطينيين في غزة أوزارها، وعندما يكون لدى الأحرار في العالم من الوقت ما يجعلهم يتأملون مراحل الحرب بتفاصيلها، وينظرون مَنْ مِنَ الساسة الدوليين تصرف بضمير حي، إزاء المقتلة التي جرت للفلسطينيين في القطاع، ومَنْ تخلَّى ولم يشأ أن يتحلى بالحدود الدنيا من المعاني الإنسانية.

عندها سوف يستقر غوتيريش في القاعة التي سبقه إليها أمينان عامان سابقان، هما داغ همرشولد، وبطرس غالي. فكل منهما لم يملك أن يقف متفرجاً على ما رآه تغولاً على حقوق الناس وحقوق الدول، فكان همرشولد هو الذي بدأ هذا الطريق المفروش بالنور، فانتفض بصفته أميناً عاماً رافضاً العدوان الثلاثي الذي قامت به بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر في 1956.

كان في مقدوره أن يُصدر بيان رفض أو شجب أو إدانة، ولم يكن أحد ليلومه إذا فعل ذلك واكتفى به، ولكنه كان أميناً عاماً من النوع الحُر، فذهب إلى مكتبه بمقر المنظمة في نيويورك، ومن داخله وقف يخاطب الدول الثلاث، ويقول إن ميثاق هذه المنظمة جرى وضعه عند نشأتها لتحترمه الدول الأعضاء لا لتدوس عليه، وإن الدول الثلاث إذا كانت تجد في عدوانها تصرفاً طبيعياً، فللأمين العام من جانبه أن يتصرف بالطريقة التي يراها مناسبة.هكذا تكلم بشجاعة وجرأة وقوة، وهكذا أرسل إلى الدول الثلاث ما معناه أنه ليس موظفاً على رأس المنظمة الأم يتقاضى راتبه ويسكت، ولكنه رجل جاء من السويد في أقصى الشمال ليمارس مسؤوليته على وجهها الصحيح. ولأنه كان على هذا القدر من الجسارة، فإنه سرعان ما دفع حياته ثمناً لموقفه، وكأننا في عالم لا مكان فيه للشجعان إلا في أقل القليل.

ومن بعده كان بطرس غالي صاحب موقف شبيه، وكان في موقفه قد رفض أن يلتزم الصمت أمام تقرير قانا الشهير عن جرائم إسرائيل في الجنوب اللبناني، فكان أن دفع منصبه، لا حياته، ثمناً للموقف الشجاع، وقد انصرف من مقر المنظمة غير آسف على ما جرى معه، وكان تقديره أنه إذا كان قد خسر المنصب فلم يحصل على فترة ثانية بخلاف كل الأمناء العامين السابقين، فإنه قد كسب تقدير العالم الذي كان يتابع ويرى.

وكان غوتيريش هو ثالث الثلاثة، وكان ولا يزال يقف ضد حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على أطفال ونساء القطاع. وكان قد انتقل من مكتبه على الشاطئ الآخر من الأطلنطي، ليحط على أرض القطاع أكثر من مرة، وليعقد مؤتمراً صحافياً لأكثر من مرة أيضاً عند باب معبر رفح، وليقول من هناك إن ما ترتكبه حكومة التطرف في تل أبيب لا بد من أن يتوقف.

وقد كان من الطبيعي أن يتعرض للأذى الكثير من جانب إسرائيل. وكان من صنوف الأذى التي لحقت به أن الحكومة الإسرائيلية راحت تروِّج لما يفيد بأنه لا يصلح أميناً عاماً، فلما طاش هذا السلاح في يدها، أعلنت أن الأمين العام «شخص غير مرغوب فيه»، ولكنه في المقابل كان يتصرف بقوة الشخص المستغني والمسؤول معاً.

ولأن المحكمة الجنائية الدولية جهاز من أجهزة المنظمة الأم، فيبدو أن المدعي العام على رأسها يقف من الأمين العام موقف الشبل من الأسد.

وكان من علامات ذلك أن خان لما دعا في مايو (أيار) إلى إصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو، ومعه وزير دفاعه وقتها يوآف غالانت، قامت الدنيا في إسرائيل التي أقامتها هي بدورها في العالم، وقد حدث هذا رغم أن الأمر في حينه كان مجرد طلب إصدار مذكرة، لا إصداراً لها بالفعل كما حصل مؤخراً، ولكن هذا لم يزد خان إلا شجاعة وتمسكاً بما يرى أنه يمثل العدالة.

وعلى طول المسافة من مايو عندما طلب الرجل إصدار المذكرة، إلى نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي عندما صدرت المذكرة فعلاً، فإنه تعرَّض لكثير من التحرش بسمعته، وكانت بصمات حكومة التطرف وأصابعها واضحة فيما تعرَّض له، ولكن مضى في طريقه لا يبالي.

الآن يدخل كريم خان مع أنطونيو غوتيريش من باب واحد، ويصطفان إلى جوار داغ همرشولد وبطرس غالي، ويقف الرجال الأربعة وعلى كتف كل واحد منهم وشاح من النور.