مئوية نازك الملائكة... هل تزيح بعضاً من «مظلوميتها»؟

منذ 1 سنة 116

لعل مئوية الشاعرة نازك الملائكة (1923 - 2007)، واختيارها من قبل المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) «رمزاً للثقافة العربية في 2023»، يحفزان نقادنا على إعادة قراءة إرث الملائكة الشعري والنقدي، الذي يبدو أن وهجه قد خبا بعض الشي ، قراءة موضوعية تسائله نقدياً، في ضوء التطورات الشعرية والفنية والنقدية لتكشف لنا عن مواطن القوة أو الضعف فيه، كما في اية عملية نقدية سليمة لآثار أي مبدع.. صحيح، أن اسم الملائكة حاضر دائماً في كتاباتنا ونقدنا، ولكن فقط بشكل مدرسي..... بمعنى إننا نذكرها حين نتحدث الشعر الحديث باعتبارها واحدة من رواده. كما أنها لم تترك أثراً واضحاً في الأجيال الشعرية، العراقية والعربية، التي جاءت بعدها، مقارنة بالسياب، وحتى البياتي، وسعدي يوسف لاحقاً.

كانت الشاعرة تدرك كل ذلك. ولعل انسحابها من الحياة الأدبية العامة، وتوقفها عن كتابة الشعر قبل سنوات طويلة من رحيلها، عائدان لشعورها بـ«المظلومية»، والنكران لدورها وشعرها، الذي غطى عليه السياب بشكل كبير، والبياتي إلى درجة معينة. كانت تعتبر نفسها أول من كتب الشعر الحر، عبر قصيدتها «الكوليرا» التي نشرتها عام 1947 في مجلة أحمد حسن الزيات «الرسالة». وهي تنسب الريادة لها بشكل صريح في كتابها «قضايا الشعر المعاصر»: «إن بداية الشعر الحر كانت سنة 1947 في العراق. ومن العراق، بل من بغداد، زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربي كله، وكادت، بسبب تطرف الذين استجابوا لها، تجرف أساليبنا الشعرية الأخرى. وكانت أول قصيدة حرة تنشر قصيدتي المعنونة (الكوليرا)...».

ولكنها لم تنل هذا الاعتراف بشكل كامل. فقد نازعها السياب الذي نشر قصيدته «هل كان حباً» في الوقت نفسه، كما يذكر هو وبعض المصادر، على هذه الأولية التي لم تحسم الأسبقية قط، وظلت غصة في أعماق نازك الملائكة عانت منها كثيراً طوال حياتها. وبغض النظر عن الأسبقية، كانت قصيدة «الكوليرا» في تقديرنا أقرب، بناءً وصوراً وإيقاعاً، إلى روح الشعر الحديث من قصيدة السياب «هل كان حباً»، التي جاءت امتداداً لقصائد السياب الوجدانية السابقة، والفرق الشكلي الوحيد هو اعتماده التفعيلة بدل العمود الخليلي، بينما كانت قصيدة «الكوليرا»، من ناحية الشكل، انقطاعاً كاملاً، ليس فقط عن شعر الملائكة، وإنما عن ميراث الشعر العربي كله. لكنها لم تنل هذا الاعتراف أيضاً.

شعرياً، يمكن القول إن الملائكة كانت متقدمة بخطوات على مجايلاتها العراقيات كعاتكة الخزرجي ولميعة عباس عمارة، والعربيات كالشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، والمصرية ملك عبد العزيز، وأكثر ثقافة وعمقاً. لقد عرفنا معها ذلك الشعر التأملي، النادر في الشعر العربي - إذا استثنينا مجايلها الشاعر اللبناني خليل حاوي، ومن الجيل اللاحق الشاعر العراقي محمود البريكان - ممزوجاً بشيء من شذرات وجودية. لكن ظلت الرومانسية، تحت تأثير الشعر الإنجليزي، هي العنصر الأساسي فيه، وسرعان ما ضاقت العبارة بعد أربعة دواوين! ومما ساهم أيضاً في خفوت وجودها الشعري، أنها لسوء حظها وُجِدت في ذلك الزمن الثوري الفوّار. كان الشعراء العراقيون، اليساريون في معظمهم، يكتبون عن الظلم والثورة والفقراء، ويبشرون بفجر جديد، ويقرأون قصائدهم في التجمعات الطلابية والمظاهرات الجماهيرية، بينما كانت هي تتغنى بعشقها لليل.

ثم، فنياً، كان هناك السياب، الذي قفز قفزة كبرى غير متوقعة: من قصائد متواضعة فنياً مثل «هل كان حباً» وأغلب قصائد ديوانه الثاني «أزهار وأساطير» إلى قصائد لا تزال من الأجمل والأعمق في الشعر العربي كـ«أنشودة المطر» و«المومس العمياء» و«النهر والموت»، محققاً ثورة حقيقية في الشكل والمضمون كليهما، وفي الجملة الشعرية والإيقاع والمعالجة الدرامية، ما منح الشعر الحديث ملمحه المميز، ودفع بالشعراء الآخرين إلى الخلف، ومنهم نازك الملائكة.

نقدياً، أرادت الملائكة أن تلعب دور «العرابة» للشعر الحر، باعتبارها «مؤسسة» له، لتضع منطلقات وقواعد ورؤى لما «ينبغي» أن يكون عليه هذا الشعر في كتابها «قضايا الشعر المعاصر». لكن ردود الأفعال كانت سلبية، واتهمت بمحاولة فرض وصايتها على الشعر الجديد، الذي تمرد أساساً على القواعد والقيود، ليس من قبل الشعراء فقط، بل من قبل نقاد مهمين في ذلك الزمن كمحمد النويهي، على سبيل المثال، الذي هاجمها بشدة.

ظلت نازك الملائكة طوال حياتها المديدة فريسة شعور ممض بأنها لم تنل تلك الدرجة من الاعتراف الشعري والنقدي الذي كانت تطمح إليه، وترى أنها تستحقه! فلم يكن أمامها سوى الانسحاب ... والصمت.